أعزائى القراء أنشر لكم اليوم مشهداً من تاريخ الشهباء، تحت عنوان: إبراهيم يزور حلب ، فتابعوا معى سرد الأحداث،،
بداية مشهد من تاريخ الشهباء
تزايد الزحام وسط مدينة حلب، وتدافع الناس وهم يصعدون تل قلعتها الشهيرة الشامخة،،
يحملون أوانيهم وأوعيتهم يولون وجوههم شطر أحد الخيام البسيطة التي نصبت في أحد جنبات التل المنبسطة،،
لاح أمامهم من بين الجموع رجل بسيط الثياب لكنه مهيب السمت، أبيض اللحية والوجه، يشع النور من بين ثنايا وجهه،،
وتعالت أصوات الناس يتناوبون ترديد عبارة تصاعد صداها هنا وهناك:- هل «حلب الشهباء»؟
أجابهم بعض المتقدمين:- أجل، لقد «حلب الشهباء» وحلب أغنامه كذلك!
وقف الرجل البشوش يتلقى منهم أوعيتهم ليصب لهم فيها من جرة ضخمة كانت بجوار خيمته، بينما تناثرت أغنامه تحت سفوح التل وفي الأرجاء المجاورة،،
يسوقها رعاءَهُ صوب نهر الفرات وإلى الجبل الأسود، في حين وقفت بقرته التي لقبت بالشهباء بجوار الخيمة في سلام يتدلى منها ضرعها الضخم وكأنه لم يحلب منذ وقت قصير!
كان الرجل في كل يوم يحلب الشهباء ويحلب أغنامه ويضع الحليب داخل جرتين كبيرتين، ثم يقف في استقبال أهل المدينة الذين كانوا يتزايدون يوما بعد يوم.
تاريخ الشهباء والشهرة
تفشى أمر الرجل واشتهرت سيرته سريعاً، وظل الناس يرددون اسمه ويتساءل بعضهم عنه حتى صار المئات،،
في كل يوم يترددون على خيمته البسيطة طلبا للحليب الرائع الذي لم يتذوقوا مثله من قبل، وتساءل أحدهم:- من هذا الرجل المبارك؟
أجابه أحد الرجال:- سمعنا الناس يقولون له يا “إبراهيم”
قال آخر:- وما سر هذا اللبن الذي يعطيه للناس؟
قال أحدهم:- لا أحد يعلم، لكن هذا اللبن وكأنه لا ينفد، وكل من يشربه يرتوي ويشبع ولا يجوع إلا في اليوم التالي، يبدو أنه رجل مبارك.
سألهم الأول من جديد:- أمن الممكن أن يكون كاهنا للإله “حدد” ؟
أجابه الثاني:- لا أحد يعلم، كل ما نعلمه أنه رجل صالح مبارك، ما إن يحلب بقرته الشهباء إلا ويعود ضرعها ممتلئا باللبن وكأن حليبها لا ينفد.
أجابه الأول:- هذا أمر عجيب، لا بد أن خلف هذا الرجل سرا ما.
وافقه الرجل قائلا:- أجل.. لا بد أنه كذلك
نفس المكان بعد أسابيع
تجمهر الناس فوق سفح تل القلعة الكبير، يقصدون خيمة إبراهيم عليه السلام، برز من وسطهم رجل بلغ من العمر أرذله بلحية طويلة تناهز في طولها وبياضها لحية إبراهيم،،
ناداه الرجل فمضى وقت قصير قبل أن يخرج لهم إبراهيم من داخل خيمته قائلا:- أهلا بالضيف الكرام.
أجابه الرجل بوقار:- جئناك اليوم نقصد بركتك أيها الرجل الصالح.
أجابه إبراهيم في هدوء:- إنما البركة من خالق الأرض والسماء.
قطب الرجل جبينه وهو يقول:- حُبس عنا المطر يا إبراهيم، ونريد أن نستسقي بك تضرعا لإلهنا “حدد”، “أرمان” العظيم صاحب البرق والرعود ومنزّل المطر، يبدو أنه صار غاضبا علينا لسبب لا نعلمه.
ابتسم إبراهيم في عذوبة وهو يمد يده لأحد الواقفين يحثه على الاقتراب، فدنا منه الرجل حاملا صنما صغيرا لمعبودهم “حدد”، فقال إبراهيم:- ادعوا إلهكم هذا أن يكشف عنكم الشدة
نظر الناس إلى بعضهم البعض، فقال الشيخ الكبير:- لن يجدي ذلك نفعا، ولن يحدث شيئا، فلم نزل ندعوه منذ أسابيع ولم يستجب لنا،،
حتى جدبت الينابيع وجفت الضروع، وشح الماء في المدينة بأسرها، لذلك أتيناك قانطين، لعله يستجب لشفاعتك.
اتسعت ابتسامة إبراهيم وتلألأت فوق ثغره الشريف قائلا:- أوليس هو إله المطر ومنشئ البرق ومطلق الرعود؟
أجابه الرجل:- ما هو إلا حجر إن لم يستجب لنا وينزل المطر!
قال إبراهيم بجدية:- ماذا لو انكشفت على يدي تلك الشدة؟ فما يكون جزائي؟
تصاعدت الصيحات وسط الجموع وهم يقولون:- نعبدك!
قال إبراهيم:- بل تعبدون الذي أعبد، فهل تقبلون شرطي؟
ترددت الهمسات بينهم، واحتدم الجدل، حتى حسم ذلك التردد شيخهم الكبير قائلا بنفس وقاره:- نقبل يا إبراهيم، ونعبد ما تعبد.
تنهد إبراهيم في ارتياح وهو يقول في حزم وقور:- فلتصعدوا معي إذن إلى رأس هذا التل.
التل
اندفعت جموعهم صاعدين نحو قمة التل خلف إبراهيم وشيخهم الكبير، حتى وصلوا إلى هناك جميعا، قبل أن يرفع إبراهيم عليه السلام ذراعاه نحو السماء،،
وهو يجأر بخشوع تام وبصوت جهوري مهيب:- اللهم يا رب الأرض والسماء أنزل على عبادك المستضعفين غيثك من السماء ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث وابلا مدرارا، واجعله مطر خير وبركة ورزق، اللهم أغثنا.
تصاعد صوت الشيخ قائلا:- آمين
تلاه أصوات الجموع يرددون في تضرع صادق:- آمين .. آمين .. آمين
سريعا احتشدت فوقهم السحب، ولم تخفت تضرعاتهم حتى بللت وجوههم وأكفهم قطرات المطر وهم لا يزالون يرفعونها نحو السماء،،
وتصاعدت صيحات الفرح ، فارتسمت على وجه إبراهيم عليه السلام ابتسامة امتنان مشرقة، تزايدت وتيرة زخات المطر المنهمر،،
فرفع عيناه نحو السماء قائلا في حمد خاشع:- اللهم لك الحمد.. اللهم طيب ثراها وهواءها وماءها وحببها لأبنائها، واحفظها من كيد أعدائها.
ارتفع صوت الشيخ الكبير يعلو فوق صوت الماء المنهمر من السماء قائلا:- آمنا بمن تعبد يا إبراهيم، لهو نعم الرب ونعم المولى ونعم النصير، هنيئا لك ولنا بهذا الإله الرحيم.
ثم نظر إلى الجموع من حوله قائلا بحبور:- تيمنا بهذا الرجل الصالح، وعمله العظيم المبارك، وإلهه البر الرحيم – وما أعظمه من إله – سيصير اسم مدينتنا منذ اليوم «حلب» .. «حلب الشهباء»!، وبذلك ينتهى مشهداً من تاريخ الشهباء.