قبل ما نتكلم انهاردة عن تاريخ الاخلاق احب انوه ان كلنا في الوقت الحالي بنعتقد انه مش صحيح ومش من الذوق وانه مش شئ “اخلاقي” اننا نتكلم بصوت عالي ومزعج للاخرين او اننا نلمس اجسامهم بدون اذنهم او اننا نبصق في وجه حد مضايقنا مثلا، ده “الطبيعي” بتاع العالم دلوقتي، دي قيمه واخلاقه اللي كلنا مقيضين بيها وبنعتقد انها طبيعتنا منذ الازل والي الابد.
لكن في الواقع اللي احنا بنعتقده طبيعة اصيلة جوانا هوا نتيجة وثمرة تاريخ طويل من “التحضر” والعمل علي تهذيب النفس الانسانية، عملية طويلة جدا من ترويض “الوحش بداخلنا” من اجل الارتقاء ب “اخلاقنا العامة” وجعل العيش في جماعات شئ افضل، في وقتنا الحاضر اللي بيشهد مراجعة ل “اخلاق المجتمع” واعادة هيكلة منظومة التصرفات من اجل مجتمع افضل، ربما من الافضل القاء نظرة علي تاريخ تطور الاخلاق عشان نقوم بعملية اعادة الهيكلة دي بافضل صورة ممكنة.
تاريخ الاخلاق عام 13000 قبل الميلاد داخل احد كهوف انجلترا
احنا في الوقت ده داخل كهف في حقبة تدعي الحقبة المجدلية، واحدة من الثقافات المتاخرة للعصر الباليوليتي الاعلي في اوروبا الغربية، اسلافنا في الحقبة دي اتعلموا يعملوا رماح من عظام الحيوانات، وقاموا ايضا باستئناس الكلاب وترويضهم، وفي بعض اوقات فراغهم كان عندهم هواية رسم وتصوير بعض الكائنات علي جدران كهوفهم خصوصا الضباع وفيلة الماموث.
اجسامنا الان مختلفة عن اجسام اسلافنا اللي عاشوا في الفترة دي، تكوينهم العضلي كان اكبر واصلب كتير، ودقونهم اكتر بروزا مننا الان، لكن الاكتر اختلافا واثارة للدهشة هوا اخلاقهم وتصرفاتهم، كانوا بيجامعوا بعض في العلن بدون اي رادع، كان منتشر جدا ما نطلق عليه اليوم “الاغتصاب”، واحيانا كانوا بيقوموا ب "اكل" اعدائهم من بني جنسهم، واحيانا اخري كانوا بيقوموا بقطع رؤوسهم وسلخها جيدا واستخدام جماجمهم ك آنية للشرب في احتفالاتهم !!! اسلافنا البدائيين بمقاييسنا الان لم يعرفوا “الاخلاق”.
تاريخ الاخلاق عام 20 بعد الميلاد، روما
في الوقت ده احنا بنشهد احد اعظم النقاط الفارقة في تاريخ التحضر الانساني، الرومان العظماء، كان عندهم من “الاتيكيت” ما لن يعمم في باقي العالم الا بعد 1400 عام من وقتهم عالاقل، الرومان اتعلموا تهذيب كتير من التصرفات البشرية، عالاقل بالنسبة للطبقة الغنية كان لازم يروحوا للحمامات العمومية مرة اسبوعيا للاستحمام وتشذيب شعورهم، وعمل وحضور دروس عن نبذ العنف وعن الطريقة المثلي لمعاملة المرأة، وتعلموا ايضا غسيل اسنانهم لتخليصها من الروايح الكريهة وده دليل علي مدي رقيهم فيما يخص الاعتناء الجسدي ومراعاة شعور الاخرين في تجنيبهم روائح النفس، اي نعم مكانش عندهم تقدم علمي فيما يخص المعرفة الطبية الفموية وكانوا بيغسلوا اسنانهم بعظام مطحونة واحيانا ب بول الخيل، لكن المهم هنا هوا “الدافع الاخلاقي” اللي دفعهم لده وهوا مراعاة الآخر.
النظافة الشخصية وحسن المظهر هوا اللي دفع الرومان للاعتقاد بافضليتهم علي من دعوهم ب “البرابرة” وهما القبائل الچرمانية والقوطية اللي بتعيش خلف “خط الزيتون” الشهير اللي بيفصلهم عن العالم “الغير متحضر” اللي بيعيشوا شمال امبراطوريتهم العظيمة.
تاريخ الاخلاق عام 1152، مدينة بويتيير الفرنسية
الملكة الفرنسية اليانور بتتزوج ملك انجلترا هنري الثاني، وبتطلب من احد الشعراء تأليف قصايد ليها ولزوجها بالمناسبة دي، الامر يبدو رومانسي جدا لكنه في الواقع اكتر من كدة.
اليانور كانت بتقوم بمحاولة ناعمة لتهذيب تصرفات زوجها معاها وعن ازاي الرجل يعامل زوجته او “سيدته”، الاسلوب ده استخدمته كتير من النساء تاثرا بيها لحض ازواجهم العسكريين علي معاملتهم بطريقة مهذبة وحانية، بشكل كبير الفضل بيعود ل اليانور في خلق مفهوم ” الفروسية” اللي بيقول للرجال انهم يتصرفوا بأدب مع السيدات وحماية شرفهن، اليانور كانت بتدعو بشكل ما للقضاء علي ما نسميه اليوم “التحرش الجنسي”.
تاريخ الاخلاق عام 1209، لندن
بيقوم شاعر يدعي دانيال من مدينة بيكلز بنشر مجموعة من القصايد عنوانها ”الانسان المتحضر” بتورينا ازاي نتصرف في الحالات الاجتماعية العامة المختلفة.
مثلا بتحض علي ”اننا لو احتجنا نتجشأ يجب ان ننظر للسقف، وانه لا يجب مهاجمة احد بينما يتبرز، وانه لا يجب مضايقة النساء ولا يجب النظر لملابسهن عن قرب وبتمعن، وانه لا يصح ان نضع اصابعنا في انوفنا امام العامة !!!”.
الطبقة الارستوقراطية بقت اكتر وعيا بتصرفاتها العامة.
عام 1450، ڤينيسيا
حدث هيعصف ب اوروبا، نوع جديد من الآنية الزجاجية اسمه “الكأس الڤينيسي” هيتم صنعه، كأس رقيق جدا وقابل للكسر بسهولة، هينتشر جدا في انحاء القارة العجوز وبسرعة، الكأس ده مصمم كدة، الرقة الشديدة وقابلية الكسر العالية دي مقصودة مش خطأ تقني في التصميم.
الفكرة ان الانسان لازم يوصل من التحضر ان كل شئ حوله يبقي عادي انه يبقي “رقيق وقابل للكسر”، لازم نهذب ونروض قوانا بحيث اننا نحافظ علي الاشياء من حولنا، خصوصا من قوتنا المفرطة، الرقة في التعامل شئ رائع وجميل ولازم نتعلمه، حتي لو من التعامل مع كأس زجاجي.
عام 1533، مارسيليا
فتاة في عمر ال 14 تدعي كاثرين هتتزوج من ملك فرنسا المستقبلي “هنري الثاني” وهتجلب معاها من مدينتها الام “فلورنسا” اشياء غريبة عالمجتمع الفرنسي زي الآيس كريم وحلويات اخري وعطور، الا ان اهم شئ هتجلبه معاها هوا مجموعة من “الشوك” !!!.
الفكرة ان الشوكة بتعطل عملية الاكل عند الانسان وبتبطئها عن عمد، بدل الايدي المصممة بدقة لتمزيق الطعام اصبحنا بنستخدم الاداة الجديدة دي لتهذيب شراهتنا وللاكل ببطء.
الاكل بالشوك انتشر في كل انحاء اوروبا بسرعة جدا وبقي ده علامة تفرق المتحضرين من البرابرة.
عام 1750، باريس
فيلسوف سويسري اسمه چون چاك روسو بينشر كتاب رائع اسمه “حديث عن العلم والفن” هيعصف بالفكر الاخلاقي الاوروبي، لسبب بسيط اننا لاول مرة بنجد فيلسوف يدافع عن اسلافنا البدائيين وعن “اخلاقهم البدائية” اللي احنا دايما بننبذها وتاريخنا الحضاري كله مبني علي تطويرها والتخلص من وحشيتها.
روسو قلب الترابيزة عالكل، زعم في كتابه ان اسلافنا الغير متحضرين دول افضل مننا نحن المتحضرين بكتير، لما كان الانسان بيعيش في “الحالة الطبيعية” كان بيتمتع بالبساطة والتلقائية وعدم التكلف، انما الان في المجتمع المتحضر الاخلاقي بقي كائن منافق ومخادع وبيتصرف علي غير طبيعته وده عند روسو شئ سئ ودعي للتخلص منه، المشكلة ليست في السلوك البربري ولكن في التحضر الزائد عن الحد !!!
وكان بيشوف ان التطور الحضاري الضروري اللي لازم يحصل بعد كدة هوا تحريرنا من سجن “الاخلاق والتحضر” وتخفيف اعبائهم علينا، صوت روسو وفكره مازالوا مؤثرين ليومنا ده، وصداه هوا اللي بنسمعه كل مرة حد بيدعونا للعيش ب “بساطة”.
عام 1827، نيويورك
بيصل المفكر الفرنسي الارستوقراطي اليكسيس دو توكفيل الي العالم الجديد، تخصيصا الولايات المتحدة عشان يشوف نظام وفكر اجتماعي سياسي جديد صاعد هوا الديموقراطية.
مجتمع المساواة الجديد اللي الكل فيه زي بعض ” افتراضيا”، مفيش فرق طبقي المفروض بين غني او فقير، كله له نفس الحقوق بغض النظر عن غناه او فقره، او تعليمه وشهاداته، الكل بيلبس نفس الازياء تقريبا.
المجتمع ده اللي بتغيب فيه التراتبية الطبقية اللي اعتادها توكفيل في اوروبا معجبوش جدا، مش لاغترابه عنه ولكن لان “القيم الاخلاقية الجديدة” اللي المفترض خلقها المجتمع الديموقراطي شئ مخادع وفاشل، لانه ببساطة بيفترض ان الكل سواسية وفي نفس المركب لكن في الواقع ده مش حقيقي، المجتمع الطبقي الاوروبي بيتهم اي نعم بالقسوة لكنه غير مخادع وبيصارح الكل بمكانته الحقيقية، اما المجتمع “المساواتي” الجديد ده بيخدع الجميع وبيمدهم بأمل زائف بامكانية الترقي دايما وده من شأنه كسرهم وجعلهم مريرين في حالة الفشل وجعل المجتمع مسعور !!!
عام 2013، ايرلندا الشمالية
اجتماع رؤساء الدول الكبري، بيظهر في اقوي شخصيات العالم امثال اوباما وكاميرون واولاند بشكل “كاچوال” بدون كراڤتات وبيتعانقوا ببساطة وبيضحكوا.
التخلص من الكراڤتات ده انتصار لفكر البساطة الاخلاقية اللي اسسوا روسو لانها دايما بتعتبر رمز للتكلف، مبيعات الكراڤتات انخفض للنص في اميريكا، و في انجلترا واحدة من اعرق الشركات المصنعة ليها اعلنت افلاسها في 2014.
عام 2014، لندن
بتصدر محكمة انجليزية عقوبة مشددة علي صاحب شركة تسجيلات يدعي دايڤ تراڤيس بسبب اعتداء جنسي قام بيه ضد احد الموظفات قبل 20 عام.
الاعتداء الجنسي ضد النساء اصبح من افظع الجرائم في عالمنا الحالي، بيرجع بعض المفكرين اسباب انتشاره الي “الانحلال الاخلاقي” الناتج عن اساءة فهم دعوات التحرر في القرون الاخيرة زي دعوات روسو، مشددين ان قيم العصر الڤيكتوري اللي بتحض علي احترام خصوصيات الجميع وعدم الاعتداء عليهم يجب ان يعاد تأصيلها من اجل التخلص من المشكلات المشابهة دي.
زي ما شوفنا تاريخ الاخلاق يتارجح بين تهذيب طبيعتنا المتوحشة زي ما الكلاسيكيين بينادوا، وبين تحريرنا من اغلال غير اصيلة زي ما روسو وفلسفته الرومانتيكية بتنادي، والغاية النهائية جعلنا كائنات اكتر عطفا واكتر تعايشا مع الاخر، ولازم ناخد بالنا ان كلا المقاربتين فيهم مشاكل، وان لازم الهدف النهائي اللي من اجله بنبحث وبنطور اخلاقنا وتصرفاتنا هوا الا نؤذي الاخرين وان نعيش “سويا” حياة جيدة.