لقيت حسن محمد السيسى مصادفة وقد أثار فضولى بقامته المديدة و أعصابه القوية وملامح القوة البدنية البادية على جسمه ثم بصوته الرنان القوى و عينيه البراقتين فعجبت من رجل أوغل فى الشيخوخة ولم يزل يحتفظ بصحة جيدة يحسده عليها شاب فى عنفوان صباه.
بداية الحوار مع حسن محمد السيسى
تقدمت لأتحدث إلي هذا الرجل وكان يدخن فى ذلك المقهى البسيط الهادئ بحى الجمالية فقلت: السلام عليكم
فرد: وعليكم السلام والرحمة يا بنى.
كيف إستطعت يا أبى أن تحتفظ بقواك فلم توهنك الأيام؟
فإبتسم قائلا: أصل أنا إتولدت قبل ما يطلع الحكما (الأطباء يعنى).
فضحكت وأمرت له بقدح من الشاى ليتبسط معى فى الحديث
ثم قلت: أنا أفتكر الحكما طلعت قبل ما تتولد.
فقال: يعنى قصدك عمرى كام سنة؟ بالكثير 60 أو 65 فضحك الرجل والموجودون معه من شيوخ القوم المتهدمين ثم نظر إلى نظرة إشفاق، وقال: أنا عندى يابنى لغاية دلوقت مائة سنة و خمسة حضرت إسماعيل باشا وتوفيق وعرابى وعباس والسلطان حسين وأدينى أهه لسه كويس زى ما أنت شايف.
وصدق الموجودون على كلامه بحماسة لم تدع لى مجالا للشك فى صدق الرجل وقد كان كل منهم وجميعهم شيوخا كما قدمنا يوازن بين الشيخ حسن محمد السيسى وهذا إسمه وبين نفسه ويقول أنا تلميذ فى الصنعة أو يحكى أخر كيف كان يسمع أخبار الشيخ من أناس كبار فى السن ويقول ثالث أنا كبرت لقيت الشيخ حسن محمد السيسى أحد جنود أحمد عرابى باشا وحوار نادر معه بالشكل ده وهكذا.
وما لبث الشيخ حسن محمد السيسى أحد جنود أحمد عرابى باشا وحوار نادر معه نفسه أن أسكتهم وأخذ يروى لى ذكرياته الماضية فى أمور تتعلق بالشجاعة والقوة فكان يقول:
ما يغركشى شكلى إلى أنا فيه دلوقت زمان ما كانش ليه دقن ولا شنب أبيض بالشكل ده وكان عندى قوة من صغرى تلاطم الزلط وإسأل يابنى عنى الناس يحكولك عن شقاوتى وقوتى ده أنا كانت الحكومة نفسها بتأجرنى عشان أمسك لها الناس الأشقياء وقطاع الطرق قبل الدنيا ما تعمر وقبل البوليس ما يكتر.
وسكت قليلا يحتسى الشاى ثم عاد يقول:
أه حاكم البوليس زمان كان من الناس الشراكسة وكان قليل أوى وكانوا كلهم بيجوا بعد العشاء ويروحوا ولا يبقاش حد فى الشوارع ولا عساكر ولا يحزنزن وكان الى يمشى فى الوقت ده فى حتة خلاء زى جبل الدراسة ما يسلمش من قطاع الطرق.
وأغمض الرجل عينيه قليلا كأنما هو يستعيد ذكرياته ثم قال:
وتعرف إنى أنا نفسى كنت واحد من الأشقياء دول بس مكنتش بسرق كنت بتخانق بس
أنت تعرف محمد سلطان اللى كان فتوة بولاق زمان خالص ؟
وتذكرت أنى سمعت بهذا الإسم من شيوخ بولاقيين يتحدثون عن فروسيته أو شقاوته وكيف نفى إلى سواكن فى السودان مع عصبة من الأشقياء.
فقلت سمعت عنه مش اللى كان منفى فى سواكن؟
فقال الرجل وقد إنبسطت اساريره.
أهو أنا كنت واحد من اللى نفوهم مع محمد سلطان وعدد الرجل عدة أسماء أخرى ثم قال وكنت أصغرهم لكن أشقاهم فعملت كل حيلة اللى بها هربت من سواكن وجيت مصر ماشى على رجلى فى مدة شهر.
حسن محمد السيسى يحكي عن هوجة عرابى
واخذ الرجل يسرد علينا عدة حوادث متتالية معروفة فى طلاقة عجيبة وذاكرة لم يؤثر فيها كر الغداة ومر العشى إلى أن وصل بنا الحديث ألى ذكر عرابى باشا و الثورة وكيف دخل الإنجليز مصر.
فعلمت من الرجل أنه إشترك فى تلك الثورة وكان جنديا من جنود عرابى باشا البواسل الذين أبلوا فى تلك الحرب ثم باتوا تأكلهم الحسرة على هزيمتهم التى أوقعها بهم الغدر والخيانة من ضباط شراكسة كانوا بالجيش وكان الرجل يطلق على هذه الثورة إسم هوجة عرابى وهو لفظ لا نزال نسمعه من أفواه الرجال والنساء الذين عاصروا الثورة أو سمعوا بها إلى وقتنا هذا.
العشرين خردة
أشد ما ادهشنى الرجل فى حديثه عن الثورة ومواقعها وقتالها إذ ألقى على هذا السؤال: أنت تعرف ليه عملوا العشرين خردة؟ فلم أحر جوابا إذ أنى رايت من العبث أن يشرح الإنسان السبب فى ضرب العشرين خردة وأن يكون شرحه إقتصاديا لا تستسيغه هذه العقول.
لكن الرجل ما لبث أن تولى عنى سرح السبب فقال:
العشرين خردة دى عملوها الإنجليز علشان يغلبونا بيها فقاطعته يغلبونا بيها إزاى؟ كانوا بيحطوها فى البنادق بدل الرصاص؟
فإعتدل ليتخذ هيئة المطلع الخبير ثم قال:
أهو أنت لسه مش عارف دول كانوا يملوا الزلع عشرينات خردة جديدة من دى لغاية ثلاث أرباعها ويغطوها براق ولا راقين من الجنيهات الذهب ويفرقوا الزلع على الشراكسة والضباط والأعيان بتوع البلد عشان يخونوا الجيش وهما فاكرين أن الزلع كلها مليانة دهب.
موقعة التل الكبير
لكن يا شيخ حسن الناس دول خانوكو صحيح؟ فأجاب فى هيئة المؤكد لما يقول:
أمال مش هما اللى كانوا السبب فى أن الأنجليز غلبونا فى واقعة التل الكبير؟
وتحدث الشيخ حسن عن هذه الواقعة حديثا طريفا فقال:
كنا بقالنا ثلاث أيام بثلاث ليالى ما نمناش فيها الجيش ولا ساعة و قعدنا ننقل فى الجبخان ونوضب نفسنا فى الطوابى من غير راحة واللى خلانا نقعد فى الحتة دى اللى هى التل الكبير أن الجواسيس بتوعنا قالوا أن الجيش الإنجليزى لسه بعيد خالص وأنه ما يمكنش يجى لغاية عندنا إلا بعد ما نكون أحنا صلحنا أمورنا خالص
وجبنا الذخيرة بتاعتنا ووضبناها فى مخزن كبير بعيد عن الجيش شوية وبعيد عن الطوابى وكل عسكرى أخد كفايته من الجبخان ده تكفيه ثلاث أربع ساعات.
وقال الرجل أنه كان من الطبيعى بعد بذل ذلك المجهود المتواصل ثلاث ايام أن يستريح الجيش قليلا فينام الجند ليلتهم هذه أمنين مطمئنين وخاصة بعد أن علموا أن بينهم وبين قدوم الجيش الإنجليزى وقتا طويلا وأن لا خطر عليهم من ناحية الإسماعيلية.
فسألت الشيخ وهل كان المفروض أن ينام الجيش فلا يبقى احد للمراقبة؟
فأجاب على الفور:
هنا بقى الخازوق و ان السر فى الزلع المليانة عشرينات خردة لأن عرابى باشا خد خبر أن عشرة ألاف خيال جم من الصعيد علشان يحاربوا ويا الجيش ففرح عرابى بالخيالة وأمر الجيش بأن ينام والخيالة يحرسوه طول الليل.
حسن محمد السيسى يكمل ويل للخائنين
واصل الشيخ حسن حديثه قائلا أتارى الباشا اللى بعت الخيالة كان واخدله سبع زلع من اللى حكيت لك عنها إنما أحنا ما عندناش خبر بحاجة ولا الباشا بتاعنا راخر وفرحنا اللى حنام شوية وفعلا راح الجيش كله ينام وكنت أنا نايم فى طابية من الطوابى وصحيت باليل على صوت أقدام بتدخل ففتحت عينى وقلت مين؟
فرد أنا أخوك عسكرى متخافش
وكان الواحد لما يسمع كلمة زى دى يسكت ويطمئن لكن ما كناش نعرف أن كل واحد داخل من الخيالة الحراس دول بيدخل ومعه واحد من العدو والدنيا ضلمة والواحد ميقدرش يشوف سترته من سترة العدو.
وأخبرنى الرجل أن القوم ظلوا على تلك الحال إلى الفجر وكانوا فى هذه الاثناء قد إحتلوا مخزن الذخيرة (الجبخان).
وعزلوه عن موقع الجيش والطوابى فبما غنبلج الفجر وتبين القوم ما حل بهم وأن الذخيرة قد إستولى عليها العدو لم يلبثوا ان أتاهم النذير بأن الجيش الإنجليزى ينحدر من الإسماعيلية وهو منهم قاب قوسين أو أدنى
فإستعد الجنود فى الطوابى على قدر الإمكان وهيأوا أنفسهم للإستبسال بين نارين نار الجيش القادم من الإسماعيلية ونار المحتلين لذخائرهم.
فلما نشبت المعركة وحمى الوطيس أظهر المصريون من الشجاعة والإستماتة فى الدفاع عن كيانهم ما ألقى الرعب فى قلوب الإنجليز اللذين غدروا بهم وخدعوهم فكان المدفع المنطلق من الطابية المصرية يفتح الشوارع فى صفوف الإنجليز على حد تعبير الشيخ حسن السيسى ولكنه قال أيه تنفع الشجاعة يابنى من غير سلاح؟
أهو كلنا كنا زى الوحوش عاوزين ندك الأرض دك لكن الجبخان فى إيد العدو والشئ اللى ويانا كله راح وما بقاش الا الخروج بالسيف وفعلا خرجنا وكل واحد فينا أشجع من عنتر وزياد و فضلنا نطير الرءوس ونقطع فى الناس اللى قدامنا يجى ساعة وهم يصرخوا ويصوتوا لحد ما غلب غلبنا ولقينا الفرسان العشرة ألاف بيهربوا فما نشعر إلا وكل واحد فينا طاير أما أنا فجريت على حصان لجمته وركبته وهات يا طيران.
وفى النهاية إعترف الشيخ حسن بأنه باع بذلته العسكرية والسيف والطربوش والحصان فى قرية من قرى الفلاحين نظير جلباب وطاقية يتخفى فيهما هربا من الأسر
المصدر
المقال منشور فى مجلة ذاكرة مصر المعاصرة فى العدد الرابع الصادر فى أكتوبر 2010 وكذلك بعض الصور.
عدد كبير من الصور من كتاب يوميات إسكندرية 1882 تأليف أمل الجيار وصادر من مكتبة الإسكندرية.
الصور
جنود الحامية المكلفين بحماية الطوابى يرقبون تحركات سفن الاسطول الإنجليزى بتاريخ 15 يوليو 1882 بنفس الجريدة السابقة. |
غلاف مجلة كل شئ و الدنيا المنشور فيها هذا الحوار فى 2 أكتوبر 1935 و كان ثمنها 10 مليمات. |
صورة بنفس الصحيفة السابقة بتاريخ 29 يوليو 1882 فيها يظهر سوء حالة الطوابى. |
صورة الأميرال فردريك بوشامب سيمور قائد الإسطول الإنجليزى الذى وصل قبالة الشواطئ الإنجليزية فى 19 مايو كما نشرتها الجريدة الإنجليزية the garphic فى عددها الصادر 22 يوليو 1882. |
صورة لمذبحة الإسكندرية كما صورتها جريدة فرنسية فى ذلك الوقت والطريف ان الرسم صور اولاد العرب وهم يضربون الأجانب بالسيوف وهو ما لم يحدث ابدا بل استخدموا العصى والنبابيت وأرجل الكراسى فقط. |
عرابي باشا فى طريقه الى المحاكمة. |
عرابى باشا وطلبة عصمت فى سجن العباسية بعد إنتهاء الثورة صورة منشورة فى the illustrated بتاريخ 7 أكتوبر 1882. |
هجرة وفرار الأجانب الجماعية العاجلة من مصر فى مراكب صغيرة للوصول الى السفن الأجنبية الراسية خارج ميناء الإسكندرية هربا من المذبحة منشورة فى جريدة the illustrated london 8 يوليو 1882. |