أساق لنا المؤرخ لاكتانتيوس قصة طريقة كانت الشرارة فى بدء الإضطهاد فى زمن دقلديانوس غير التى رواها يوسابيوس. من تلك العبارة سنعرب حسب ما أشارات إليه الوثائق عن مدى صحتها محاولين توسيع نطاق دائرة البحث عن أى الآراء أقرب إلى الصواب، وما هيه الأسباب وراء هذا الإضطهاد الأعظم.
الإضطهاد من منظور يوسبايوس
أخبرنا المؤرخ الكنسى يوسابيوس القيصرى أن الاضطهاد قد وقع فى السنة التاسعة عشر من حكم دقلديانوس أى 303م، وقد صور لنا الاضطهاد فى صورة تحذير إلهى للنصارى ليتطهروا من درنهم نتيجة الانقسام حول طبيعة المسيح.
بيد أن هذا القول لم يأخذ به، فمن يقرأ رسالة يوسابيوس يتبادر إلى ذهنه أنها تحمل محمل عقائدى وأن العقاب الإلهى جاء نتيجة الفرقة مع أن هذا الأمر لا يعنى للدولة شئ سوى الخوف من الانشقاق عن وحدة الدولة وشتات رعاياها وعليه لم يكن هذا الانقسام هو السبب الرئيسى فى الاضطهاد كما أشار يوسابيوس.
الإضطهاد من منظور لاكتانتيوس
روى لنا المؤرخ الكنسى لاكتانتيوس قصة طريفة توضح بدء شرارة الاضطهاد الذى اقترفه دقلديانوس وهو أن دقلديانوس كان يقيم حفلًا يقدم فيه القرابين للمعبودات الرومانية لكسب رضاها، فأراد استطلاع الغيب (واليعاذ بالله) وعما يخبأه القدر له، وتصادف وجود بعض النصارى من موظفى البلاط فى تلك الحفلة فقاموا برسم شارة الصليب كنوع من الحماية، فلما نحرت الأضاحى، وفحصت أكبادها لاستطلاع الغيب عجز العرافون عن فعل ذلك.
فأعلن زعيم العرافين تاجيس بأن هناك ملحدين فى الحفل وأنهم وراء ذلك، فجن جنون دقلديانوس، فأًصدر قرارًا بأن يجلد كل من لا يقدم قرابينًا للمعبودات.
وعلى ذلك نجد لاكتانتيوس لم يرغب فى أن يلقى بتهمة الاضطهاد والرغبة فى إشعاله على دقلديانوس وحده وأنه وحده من فى الصورة، بل نفى عنه فكرة الاضطهاد البتة وعزاها كلية إلى قيصره جاليريوس، وأن جاليريوس كان واقعًا تحت تأثير أمه التى كانت متأثرة بربة الجمال ما دعاها لتقديم القرابين لها باستمرار للحفاظ على جمالها، فذات مرة لم يشترك أحدًا من أسرتها ممن تنصروا فى ذلك الأمر فتسلط على نفسها روحًا شريرة رغبت فى التخلص من النصارى.
فإجتمع جاليرويس كثيرًا مع دقلديانوس اجتماعات مغلقة محاولًا اقناعه إلا أن دقلديانوس عارض كثيرًا إلحاح جاليرويوس موضحًا له كم من ضرر بالغ سيصيب الدولة من جراء موت النصارى وكم من الدماء ستراق كما أنهم يقبلوا على الموت غير مترددين، إلا أنه لم يستطع أن يكبح جماع ذلك العنيد فإستشار مستشاريه وطرح المسألة عليهم فأخبره فريق منهم بوجوب استئصال شأفة النصارى والفريق الآخر انضموا لهم فى الرأى، فقرر استشارة الالهة لأن قلبه لم يطاوعه على فعل ذلك، فبعث من يأتى له برأى أبوللو فكانت إجابته معروفة باعتباره عدو للمسيحية.
مغالطة رواية لاكتانتيوس (تحليل الرواية بالأدلة)
تلك الصورة التى حاول أن يرسمها لنا لاكتانتيوس عن دقلديانوس، فى أنه كان يخشى جاليريوس كثيرًا والسبب يعود إلى أن نارسيوس Narsē ملك الفرس شن هجومًا على الأجزاء الشرقية من الإمبراطورية محاولًا الاستيلاء عليها، فأرسل آنذاك دقلديانوس له جاليرويوس خشية من أن يشر كأس الأسر الذى تجرعه فاليريان قبل ذلك. فلما انتصر جاليرويوس ازداد خشية منه وهلعًا. لذا حاول لاكتانتيوس أن يبرز لنا معللًا أن جاليرويوس هو المحرك الرئيسى لتلك الأحداث أما دقلديانوس فكان أضعف مما كان يشاع عنه.
ولكن هل يعقل برجل كدقلديانوس فى رجاحة عقله أن يلقى بأعباء دولته فى حجر من ألح وألج عليه وهو يعد صنيعته وواحد من رجاله؟ بل ويقدم على إجراءات فى غاية الخطورة مثل تلك وهو يعلم مقدمًا بماذا ستؤدى إليه داخل الإمبراطورية لا لشئ إلا أن قيصره أراد ذلك !! بل وهناك مايدفعنا للتساؤل حول تغيير دقلديانوس سياسته فجأة شطر النصارى بعد ثمانية عشر عامًا قضاها فى حكم الدولة الرومانية؟ فهل يعقل ذلك أيضًا؟!!
كما لايمكن بالجذم أن الإمبراطور قام بالاضطهاد بناءًا على مطلبًا جماهيرى كما حدث بعهدى دكيوس وفاليريان، فالأمور كانت كلها كانت مستقرة ومستتبة بوجه عام فى تلك الآونة 303م، والأخطار الخارجية محكمة، ودقلديانوس قد أعاد تنظيم الإمبراطورية حينها من حيث: الإدارة، والولايات، والجيش الرومانى، والأحوال الإقتصادية وكافة شئون الدولة، وعليه فلم يكن هناك أى عامل يغير صدور الآهلين للحث على الانتقام من النصارى لسبب أو لآخر.
نضف إلى ذلك عدم الاعتراف بالقول الذى يشير إلى أن الاضطهاد جاء نتيجة وحى إلهى تلقته الكهنة إلى الإمبراطورية فأقدم على تنفيذه. فالنصارى كانوا يحتلوا أغلب مناصب العامة فى الإدارة، وحكومات الولايات والقصر الإمبراطورى، بل طيلة الثمانية عشر عامًا السابقين له لم يتسجيب لأى نداء كهنوتى من الأرباب كما زعًم ضد هذه الجماعة.
تبرير تصرف اضطهاد دقلديانوس
إلا أن هناك من يبرر دون دليل تصرف دقلديانوس الفجائى نحوهم ويرجعه إلى اكتشاف الأخير مؤامرة حيكت ضده من قبل النصارى لقلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة. لكنه لم يبرر تبريرًا معقولًا يقود النصارى إلى خيانة إمبراطور عاملهم طوال فترة حكمه بعطف.
وآخر يرجع ذلك إلى النصارى أنفسهم الذين أيقنوا بأن تلك المعاملة لن تدوم بعد دقلديانوس أى فى حكم خليفته جاليريوس وذلك لعدائه الشديد لهم، ومن ثم فقد سعوا جاهدين محاولين اقناع دقلديانوس ليبعد قيصره عن خلافة العرش، وأن يحفظ العرش لشخص يبدو لهم متعاطفًا نحو النصارى وهو قسطنطين على الأرجح، القائم آنذاك فى بلاطه والمكروه من جاليريوس.
بل منهم من فكر فى محاولة تنصير دقلديانوس نفسه كى يقصى جاليريوس عن عرش الإمبراطورية القادم، إلا أن تحركاتهم تلك كانت مثيرة للارتياب والشك لدى القيصر، فهو يعلم مايحمله النصارى له من حقد دفين، فبدأ يجتمع بدقلديانوس 303م اجتماعات سرية فكان يحاول جاهدًا أن يجمع كل ادلة التآمر ضده مقنعًا دقلديانوس بإياها وأن المتآمرين نصارى. ثم يضيف لنا صاحب ذلك الرأى أن دقلديانوس أقدم على الاضطهاد لأسباب سياسية وليست دينية.
رأى الدكتور طارق منصور
الذى يزيد الأمر تعقيدًا هو الصمت من جانب يوسابيوس، والتحفظ من ناحية لاكتانتيوس فالأول علل المسألة تعليلًا دينيًا يحمل طابع العدل الإلهى دون ذكر سبب واقعى كما فعل على عهد فاليريان وديكيوس، أما الأخير فاكتفى بسرد قصته تلك التى حاول فيها تخفيف الاتهام عن دقلديانوس وعدم تحميله المسئولية كاملة وأن جاليريوس هو المدبر الرئيسى.
وربما فعل لاكتانتيوس ذلك لمعروف قد أسداه له دقلديانوس، فقد عينه دقلديانوس معلمًا للبيان فى نيقوميديا ما جعله يقطن بالقرب من القصر الإمبراطورى بنيقوميديا فربما عده ذلك لاكتانتيوس تقديرًا له فرأى أن يرد ذلك المعروف له بمحاولة إنصافه من التورط الكامل فى الاضطهاد.
فكر دقلديانوس والأسباب وراء الإضطهاد
لقد كان دقلديانوس خير نموذج للحاكم الأوتوقراطى الذى أراد أن يجمع السلطة المركزية فى يده ويشرف على كل صغيرة وكبيرة، ونجح فى ذلك إلى حد كبير، وبالتالى لم يتصور مطلقًا أن تخرج الكنيسة عن دائرة نفوذه، وأن تغدو دولة داخل الدولة، فهيأ له أن النظام المسيحى على هذه الحالة سيودى بجهوده التى بذلها طوال سنواته السابقة.
ونضف على ذلك السنوات التى قضاها فى نيقوميديا تشرب فيها مبادئ الشرق الهللنستى وعظمة الإمبراطورية الفارسية وتقديس حاكمها، فسعى لتنفيذ ذلك وقد كان فغدا الإمبراطور وكل ما يخصه ذا قدسية وجلال، وأضحى صاحب السلطة المطلقة فى الإمبراطروية بأكملها.
وبالتالى رأى مثل ما رأى جاليريوس وهو أن المسيحية هى أخر عقبة فى طريق السلطة، ولأن جاليرويوس كان يعلم ما تنطوى عليه نفس الإمبراطور من حبل السلطة والسيادة المطلقة، فراح يزين له ذلك السبيل، بل لم يدع فرصة واحدة دون أن يضرب فيها على أنغام استكمال هذه العظمة والسلطان اللذان لا يأتيان إلا بإتمام الوحدة الدينية فى البلاد.
ولنضف سببًا آخرًا على جانب كبير من الأهمية، وهو أن عددًا ليس بالقليل بالجيش اعتنق المسيحية وبالتالى امتنعوا عن ممارسة أى طقوس وثنية كتقديم الأضحيات وإحراق البخور أمام تمثال الإمبراطور وهو الإجراء الذى يعد دليلًا على الولاء للإمبراطور.
ومنه أدرك دقلديانوس أن تلك العقيدة سوف تعصف بولاء الجند لشخصه وهو خشى ما كان يخشاه الإمبراطور، فالحكومة الرباعية التى أنشأها لإدارة الإمبراطورية من خلالها هو نظام أراد به القضاء على تلاعب الجيش بالأباطرة، فكيف يصبح الحال إذن والجند لايكنون لقوادهم الوثنيين ولا لإمبراطورهم أى عاطفة من الولاء؟ ومايدعم ذلك الرأى هو قول يوسابيوس الاضطهاد بدأ” بالأخوة الذين فى الجيش”.
المراسيم التى أصدرها دقلديانوس
أصدر دقلديانوس أربعة مراسيم صدر ثلاث منها فى عام 303م:
- المرسوم الأول: تدمير الكنائس المسيحية.
- المرسوم الثانى: إحراق الكتب المقدسة.
- المرسوم الثالث: القبض على كافة رجال الاكليروس بمختلف طبقاتهم وعدم الإفراج عنه إلا بعد أن يقدموا القرابين للآلهة.
- المرسوم الرابع: صدر فى عام 304م ويلزم كل فرد فى الدولة أن يقرب للآلهة اضحياته.
أذيعت هذه المراسيم ولاسيما الثلاثة الأول فى الإمبراطورية كلها، غير أن تنفيذها لم يكن بنفس الدرجة فى الشرق والغرب، فالأقاليم الخاضعة للإمبراطور وجاليريوس بلغ فيها حد العنف إلى أشده، وكذلك ماكسيميانوس، أما قسطنطيوس فلم يأخذ تلك المسألة بمحمل الجد على النحو الذى سارت به الأمور فى الشرق، ولكى لا يظهر فى صورة المعارض للإمبراطور أمر بتحطيم جدران الكنائس بصورة تمكن من إعادة بنائها ثانية، بل إنه لم ينفذ سوى المرسوم الأول ولم يعبأ بالآخرين، ولعل ذلك يعود لقلة عدد النصارى فى الغرب إذ ما قورن بنصارى الشرق.
رد فعل النصارى
بعد هدم كنيسة نيقوميديا وتسويتها بالأرض انتفض النصارى بشكل لايصدق فى جميع أرجاء الإمبراطورية كان مبعثها حركة ثورية قامت فى سوريا، وأضرموا النيران فى القصر الإمبراطورى مرتين كرد اعتبار، ولكن لم يشفى غليلهم بعد، إلا أن لاكتانتيوس يذكر بأن من أشعل النيران هو جاليريوس ليشعل نيران غضب الإمبراطور نحوهم ويزيد من سخطه وحنقه عليهم، فكانت النتيجة إلقاء القبض عبثًا على العديد منهم دون أى تهم تحت طائلة التعذيب حتى يعترفوا بارتكاب جريمة الحرق عمدًا.
أحداث الإضطهاد
ثم يستطرد لنا لاكتناتيوس أحداث الاضطهاد قائلًا “أصبح الاضطهاد عامًا وشاملًا فبدأ بقهر ابنة دقلديانوس فاليريا وزوجته بريسكا النصيريتين، كما ذبح أحد خصيانه بالقصر، وسيق القساوسة والموظفون إلى القتل زمرا دون محاكمة، أما الحرق حيا فلم يكن يفرق بين جنس أو سن، ولما كانت الأعداد كبيرة كانت توقد لهم نارًا واحدة لتضمنهم جميعًا، وغصت السجون بمن فيها وارتاعت الإمبراطورية لهذه الويلات. أما يوسابيوس فقد أفرد لهذا الاضطهاد كتابه الثامن من تاريخه الكنسى، وعقد لشهداء فلسطين فصلًا خاصًا.
المراجع
- طارق منصور، هانى البشير: مدخل لتاريخ أوربا فى العصور الوسطى، د.م، د.ت.
- Barnes, T. D., ” The New Empire of Dicocletian and Constantine”, (Cambridge, Mass., 1920).
- Williams, s., ” Diocletian and the roman recovery”, (New york, 1985).