أنت أمام الماضي وجها لوجه – بورتريهات وجوه الفيوم “تنظر في أعينهم كأنك تنظر مباشرة إلى العالم القديم، فأنت تقف وجهاً لوجه مع شخص حقيقي”، بهذه الكلمات وصفت الفنانة يوفوريوسين دوكسياديس لوحات مومياوات الفيوم، وهي لوحات تحاكي الطبيعة رسمت بشكل كلاسيكي لوجوه أشخاص على لوحات خشبية، ووضعت على وجوه المومياوات في مصر و خاصة في مدينة الفيوم جنوب غرب القاهرة.
كنت صغيرا جدا في السادسة من عمري حينما طالعت لأول مرة تلك الوجوه العتيقة داخل أحد قاعات المتحف المصري بالقاهرة، وجوه حزينة واقعية بشكل مذهل، تشبه كثير من الوجوه التي نعاصرها اليوم ، تلك الوجوه التي قد لا يدرك عامة المصريين مدى الأهمية التي تمثلها تلك البورتريهات في تاريخ الفن الإنساني والتي تجبرك على الوقوف أمامها لتتأملها بعمق وتتفرس في ملامحها وأصلها وفصلها ، ويسرح خيالك في الماضي البعيد لتتخيل كيف عاش هؤلاء وكيف انتهت حياتهم ، أشقياء كانوا أم سعداء ؟ ويبدو أنك لن تعرف الإجابة أبدا.
إن تلك اللوحات الصغيرة المرسومة بالشمع على الخشب أو القماش بأحجام لا تتجاوز في أغلب الأحيان 20×30 سم تمثل حلقة نادرة في فن التصوير، اذ ساهمت في تشكيلها عناصر ثقافية تميزت بالتنوع والثراء، وخبرات فنية كانت حصيلة تقاليد عريقة لحضارات كبرى.
تاريخ بورتريهات وجوه الفيوم
يعود تاريخ رسم وجوه الفيوم إلى القرن الأول للميلاد خلال فترة السيطرة الرومانية على مصر، وامتدت حتى القرن الثالث والرابع للميلاد مع انصراف الناس عن التحنيط بعد دخول المسيحية إلى مصر.
وفي عام 1887 اكتُشفت وجوه الفيوم على يد خبير المصريات الانجليزي فليندرز بيتري في مدينة الفيوم تحديداً في منطقة هوارة، تميزت وجوه الفيوم بخروجها عن الإطار المصري المعروف خاصة بعد انفتاح مصر عن العالم بعد ان كانت منغلقةً على نفسها، وتعود أصول هذه اللوحات إلى الحضارتين اليونانية و الرومانية حيث ظهر الاهتمام بالوجه و الجسد الإنساني و انتقل هذا الاهتمام إلى مصر في القرن الرابع قبل الميلاد بعد احتلال الاسكندر المقدوني لمصر و التأثير الكبير للفنانين اليونانيين الذين نشروا هذا النمط في مصر.
وتضاعف الاهتمام بهذا النمط الفني بعد دخول الرومان مصر عام 30 قبل الميلاد بعد وفاة كليوباترا، ولكن اهتمام المصريين الكبير بالحياة الأبدية حوَل رسم الوجوه إلى فن جنائزي وهذا هو الهدف الذي صُورت من أجله هذه الوجوه في نظر أصحابها، فبالرغم من التأثير اليوناني و الروماني الفني على لوحات مومياوات الفيوم إلا أن الغرض التي رسمت من أجله وهو تخليد الموتى والذي كان مرتبطاً بالديانة المصرية و ثقافة المومياوات و الحياة الأبدية.
وقد لُوحظ عدم وجود اللوحات على كل المومياوات ، فقد كانت محصورةً بأصحاب الشأن العالي و المنزلة الاجتماعية الرفيعة ، و حُصرت بطبقات اجتماعية محددة.
وتوجد حتى الاَن 900 لوحة مكتشفة و محفوظة في متاحف لندن و مصر و متحف اللوفر في باريس، ونظراً للمناخ الجاف والحار للمنطقة فقد حُفظت اللوحات بشكل ممتاز لدرجة أن ألوان الكثير منها تبدو وكأنها لم تجف بعد، حيث كان يتم خلط شمع العسل بالملونات و يرسم به باستخدام فرشاة مصنوعة من ألياف النخيل، ولكن الرسم بالشمع لم يكن أسلوباً مصرياً بل انتقل إلى مصر عن طريق الهلنستيين الذين استعملوه على نطاق واسع.
وفي الواقع فان لوحات الفيوم هي الوحيدة من نوعها في العالم، وقد عُثر علي مومياوات الفيوم في عدة أجزاء من مصر إلا أن منطقة حوض الفيوم شملت أغلب الاكتشافات ما جعلها تحمل هذا الاسم وتحديدا من منطقة هوارة وحتي أواسط مصر، ويرجح علماء الآثار أن تكون هذه اللوحات الجنائزية المصرية قد صنعت في فترة مصر الرومانية.
ويرجح أن صنعها قد توقف في القرن الثالث للميلاد، وتعتبر اللوحات مثالا مبكرا لما تلاها من أنواع فنون انتشرت في العالم الغربي من خلال الفن البيزنطي وفن الأيقونات القبطي في مصر.
مدرسة رسم بورتريهات الفيوم
تعد وجوة الفيوم “بورتريهات الفيوم” مدرسة خاصة ظهرت في مصر في منطقة الفيوم، امتازت بخروجها على الإطار المصري القديم المألوف بعد انفتاح مصر في هذا العصر على العالم الخارجي بعد أن كانت منغلقة على نفسها، وفيها رُسم الوجه كاملاً من الأمام، وملتفتًا في بعضها قليلاً إلى اليسار.
ولهذه الصور طبيعة فريدة؛ فهي تمثل أشخاصًا بعينهم. ويلاحظ أنها كانت ذات غرض جنائزي، إلا أنها تختلف جذريًا عن الفن المصري في التصوير، وتمتاز بتصوير الشخصيات تصويرًا واقعيًا وطبيعيًا، ورُسمت بأسلوب معين لا تخطئه العين، فياضة بالمشاعر الإنسانية، وإن كان أغلبها حزينًا منقبضًا.
وهذا التلاحم بين وجوه الفيوم والمومياوات وسمها بروحية غريبة، كما اتسمت الوجوه المليئة بالحيوية بنظرتها الهادئة والخالدة.
وتنبع الروعة والإبهار وقوة التأثير التي تتميز بها تلك البورتريهات من قدرة مبدعيها وتمكنهم التقني في فن تصوير البورتريه، ومهارتهم في محاكاة الطبيعة، وقوة بناء الشكل وجمال صياغته، إلى جانب براعتهم في استخدام بعض المتناقضات، مما جعل لوحاتهم تفيض بعمق المعنى، وقوة التأثير، والقدرة على إثارة الخيال.
وانتماء البورتريهات إلى الأسلوب الهلنستي في الفن، لا ينفي انتماءها إلى العقيدة المصرية في الغرض الذي رُسمت من أجله؛ فهي صور جنائزية وجزء لا يتجزأ من المومياء، وكانت الألواح الخشبية توضع على وجه المومياء، بحيث تكون ألياف الخشب في اتجاه رأسي، وتثبت في وضعها من تحت أربطة الجثة.
المصادر
- موقع ويكيبيديا.
- موقع الباحثون السوريون.