لقد تسببت ديانه الإله آتون بحدوث الكثير من الإنقسامات فى مصر، وأصبح الكهنه المصريين والعديد من العائلات المحافظة يتخذون موقفاً عدائياً من إخناتون، والذى خلفه الملك توت عنخ آمون ولم يكن للملك الفيلسوف من قوه او نفوذ يقاوم بها التيار.
فلو لم يكن من ورائه الجيش يدين بالولاء للعرش، وظل بعيدا عن المنازعات الداخليه، ويرجع الفضل فى ذلك الى رجل حكيم وهو القائد (حورمحب) الذى ظل على رأس الجيش طيله هذه الفتره، ولم يحارب الدعوة الجديدة!، ولم يكن من مؤيديها المخلصين المتحمسين، بل ظل مخلصا لواجبه فقط.
جلوس توت عنخ آتون على العرش
لما جلس الملك (توت عنخ آتون) على العرش فى عام 1348ق.م كان فى امس الحاجه الى رجال مخلصين لانقاذ البلاد مما كانت فيه، ووجد ذلك فى رجلين احداهما (اى) الذى أشرف على اداره البلاد وحاول أن يصلح ما استطاع، والاخر (حورمحب) الذى ظل فى منف بعيدا عن طيبه وعن تل العمارنه وبذل ما فى وسعه لاصلاح الموقف مع اسيا.
وهناك احتمال بأن (حورمحب) ذهب مره حوالى العام الثانى عشر من حكم اخناتون فى حمله الى سوريا ولكن هناك ايضا ما يكاد يكون حقيقه واقعيه وهو انه فى العام الاول من حكم (توت عنخ آتون) ذهب على راس الجيش لاعاده الامن الى بعض ولايات فلسطين وفينيقيا.
اما فى سوريا وفى شمال الفرات فقد كانت الحاله متحرجه الى ابعد الحدود وكانت خيتا بدأت تدخل فى عصرها الذهبى وتوسعت كثيرا على حساب مصر منذ أواسط حكم (امنحوتب الثالث) وزادت فى اواخر أيامه وطيله أيام اخناتون.
وليس هناك شك فى ان إلتحام ما حدث بين مصر وخيتا او على الاقل بين جيوش مصر والمدن المؤازره لخيتا. وقد ادعت النصوص الخيتيه بان النصر كان لها كما ادعت النصوص المصريه (مقبره حورمحب فى سقاره ومقبره حوى فى طيبه وصندوق توت عنخ أمون) بأن النصر كان لها ايضا.
وربما كان كل من طرفى النزاع قد حقق جزءا مما كان يرى اليه فادعى النصر الكامل، وكان من المستحيل ان تبقى الامور فى مصر على ما كانت عليه. فقد رأينا كيف تراجع اخناتون فى اعوامه الاخيره، وكيف أرسل (سمنخ كا رع) الى طيبه ولكن هذه المحاولات باءت كلها بالفشل، لان كهنه امون الاقوياء رفضوا الا اعاده الامور الى ما كانت عليه ورفضوا اى حل وسيط.
تغيير إسم الملك توت عنخ آتون
وقضى الملك (توت عنخ آتون) ثلاث سنوات فى العمارنه ولكنه قبل ان يغادرها الى طيبه رضخ او رضخ مستشاروه، لمشيئه كهنه آمون وأنصارهم وغير اسمه الى (توت عنخ آمون)، وقد عثر له ولزوجته فى تل العمارنه على اثار بعد تغيير أسمائهما بادخال آمون فيها. ثم انتقل نهائيا الى طيبه، ولاقت الدعوه الى عباده اتون المصير المحتوم.
فقد سلط كهنه امون انصارهم على اثار اتون واثار اخناتون فحطموها اينما كانت، وخربوا المدينه وخربوا القبور وفتكوا بما فيها من مومياوات، واعتبروا المكان باكمله مكانا نجسا!، أما موقف الملك (توت عنخ آمون) من ذلك كله فاننا نراه واضحا كل الوضوح فيما خلفه من اثار، فان موارد الدوله كلها وثروه البيت المالك خصصت لاصلاح ما فسد واقامه ما تهدم من المعابد. ورضخ الملك الشاب لجميع الاشتراطات وان ادعى فى لوحته بانه فعل ذلك عن طيب خاطر.
أحداث ما بعد التحول لديانة الإله آمون
وها هو يتحدث عن اعماله، فكر جلالته فى عمل مشاريع يحبها قلبه باحثا عن اى عمل مفيد ليؤدى خدمه لابيه آمون. وضع له تمثالا فخما من الذهب الجيد. بل وفعل له خيرا مما كان قبل ذلك اذا جعل محفه تمثاله على ثلاثه عشر عمودا، بينما كانت محفه ذلك التمثال العظيم على احد عشر عمودا فقط. كان ذلك دون ترخيصه لكهنه امون اذ صنع تمثالا من الذهب بدلا من التمثال الذى عسى أن يكون اخناتون قد اخذه من قبل، كما جعل محفه التمثال الجديد اكبر من سابقتها.
ولم يعد هناك مجال لأولئك الدخلاء الذين اقحموا انفسهم على الكهنوت، فعاد الامر من جديد الى أبناء العائلات فيقول الملك (توت عنخ آمون) فى موضع اخر “وعين كهنه ومرتلين من بين أبناء وجهاء البلاد وكان كل منهم أبنا لرجل معروف وهو ايضا رجل ذو اسم معروف”.
أما المعابد المصريه الاخرى التى أصابها الخراب فقد نالت التعويض اللازم لاعاده العباده فيها، وضوعفت ثروات المعابد بل وكانت ايضا فى بعض الاحيان ثلاثه، وأربعه أمثال ما كان لها من فضه وذهب ولازورد وفيروز. وهكذا عاد الملوك رغم انفهم الى خطيره امون وانتصار كهنه امون انتصارا كاملا، وكان يوم تسليم الملك (توت عنخ آمون) للكهنه بجميع مطالبهم هو بدء تسلط الكهنه على الدوله، ولم يسترجع الفراعنه سلطانهم القديم بعد ذلك اليوم.
الفن فى عهد الملك توت عنخ آمون
ولكن اذا كانت هذه النكسه قد أصابت ديانه آتون، فان الفن ظل يتمتع بالكثير من حريته. فنحن نعرف ان المبالغه الكثيره فى تصوير الاشخاص وصنع التماثيل خفت حدتها ابتداء من السنه الثانيه عشره من حكم اخناتون، فلما جاء الملك (توت عنخ آمون) الى طيبه أخذ الفنانون يعودون الى الأسلوب القديم، ولكنهم لم يتحرروا تماما من أسلوب العمارنه، فنرى فى محتويات مقبره الملك (توت عنخ آمون) وفى المقابر الأخرى التى أنشأت فى عهده أو فى عهد (اى)، واوائل أيام (حورمحب) كثيرا من الحريه التى اعتدنا أن نراها فى عمل الفنانين منذ ايام امنحتب الثالث.
وكانت مدة حكم الملك (توت عنخ آمون) هى عشرة سنوات عاش السبعه الاخيره منها فى طيبه، ومات دون أن يكون له ولد من بعده، ولم يتجه الكهنه الى أمير من أمراء العائله التى حكمت نحو 220 سنه (1570-1352 ق.م)، بل وصل الى رجل غريب عن البيت المالك وهو (اى) الذى لعب دورا كبيرا اثناء حياه اخناتون، وكان دون شك المدبر لانتقال الملك (توت عنخ آمون) الى طيبه، وصاحب (الأى) الاول فى البلاد وصاحب الصله الكبيره بكهنه امون.
ومن الجائز ان كهنه امون لم يرضوا بعوده الملك الى طيبه وجلوسه على عرش البلاد، إلا بعد حصولهم على ضمانات كافيه بألا يتكرر ما حدث من اخناتون، وربما كان من بين هذه الضمانات ما كان يسعى اليه (اى)، وهو الجلوس على العرش فإشترك مع الملك (توت عنخ آمون) فى الحكم كما اتضح اخيرا، اذا عثر على بقايا معبد صغيرا أقيم أثناء حكمهما المشترك.
عثر على أحجار من هذا المعبد ضمن مبانى البيلون الثانى فى الكرنك وهو البيلون الذى أقامه (حور محب) واستخدم فى مبانيه كثيرا من الأحجار التى كانت مبعثره فى الكرنك، ومن بينهما أحجار من المعابد التى أقامها اخناتون وخلفاؤه. ولسنا نجهل عداء (حورمحب) (لاى)، ولسنا نجهل عداءه فيما بعد لذكرى اخناتون وعائلته. ولهذا لا يدهشنا أن نراه يحطم اسم الملك (توت عنخ امون) و(اى) التى كانت على جدران ذلك المعبد ثم هدمه ورمى باحجاره فى صرحه الذى بناه، حيث ظلت فى مكانها حتى عثر عليها فى اوائل عام 1950.
اذا درسنا اثار الملك (توت عنخ آمون) وعصره فإنا نجد أنه بالرغم من كونه شابا صغير السن ضعيف البنيه فان مصر اخذت تنهض من كبوتها وتستأنف حياتها العاديه. فأما عن البناء فقد نشطت حركته كثيرا وانشغل المهندسون اولا فى اصلاح ما تخرب ثم اخذوا فى تشيد معابد فى جهات متعدده من مصر شمالها وجنوبها. ولم يقتصر الامر على طيبه بل تعداها الى منف والى منطقه أهرام الجيزه كما ترك اثارا أخرى فى شمالى السودان.
ولسنا فى حاجه الى تفكير طويل لندرك أن ما خلفته حركه اخناتون من انقسام وعدوات جعل مهمه تنظيم البلاد داخليا امرا غير يسير!، وأن الامر كان محتاجا الى شخص قوى حازم يضرب ضربه قويه لاصلاح كل ما فسد. ولكن الملك (توت عنخ امون) كان صغير السن وكانت الامور تتجه نحو كهنه آمون الذين أسكرتهم خمره النصر، كما اتجهت الامور أيضا الى تركيز السلطه فى أيدى الذين شملهم اضطهاد اخناتون فبدأوا بدورهم يضطهدون من اضطهدوهم من قبل.
ولكن مع هذا كله ظل الفن على ازدهاره، ولم يتقلص نفوذ مصر فى النوبه وشمال السودان، وظل حكام السودان يأتون ومعهم زعماء هذه البلاد الى مصر ليقدموا ولاءهم وهداياهم، أما فى اسيا فإننا لم نسمع بأى حملات حربيه غير الحمله التى يحتمل أن يكون قد قام بها (حورمحب) كقائد للجيش فى السنه الاولى من حكمه وهى التى نرى اشارات اليها فى تاريخ حياه هذا القائد وكذلك فى مقبره حوى (رقم 40 فى طيبه) وعلى أحد الصناديق التى عثر عليها فى مقبره الملك (توت عنخ امون).
وفاة توت عنخ أمون
مات الملك (توت عنخ امون) وهو فى ريعان الشباب اذا لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره ودفن فى قبر صغير ربما كان قد أعدوه لغيره وملأوا حجراته الاربع، وكدسوا فيها الاثاث وما اعتادوا وضعه مع الملوك تقديسا . ولونوا بعض الجدران على وجه السرعه. ونحن اذ نقف اليوم فى هذا القبر الصغير تستولى علينا الدهشه ونسأل انفسنا كيف اتسعت هذه الحجره لما نراه فى قاعات المتحف المصرى من اثار كثيره؟! وكيف يتلائم هذا القبر المتواضع مع ذلك الاثاث الفخم الكثير؟!.
زوجة توت عنخ آمون
بعد وفاه الملك (توت عنخ امون) رأت زوجته (عنخس ان آمون) نفسها وحيده ووجدت الملك يخرج من بيت أبيها فعز عليها أن تسكت على ذلك، وقامت بمحاوله جريئه. أرسلت الأرمله الشابه رسولا الى ملك خيتا!، وصاحب النفوذ الأكبر فى اسيا والذى يقود امبراطوريه مصر فيها، ومعه رساله تقول فيها
“مات زوجى وليس لى ابن، ويقولون عنك ان لك أبناء كثيرين. فاذا أرسلت لى ابنا لك فانه يستطيع أن يصبح زوجى. ولن أقبل باى حال من الاحوال أن أتزوج واحدا من رعاياى فان ذلك شيء أمقته”.
ودهش الملك (سوبيلوليوماس) ملك خيتا لهذا الطلب فأرسل رسولا خاصا الى بلاط مصر ليتأكد من أنه ليست هناك خدعه وعاد الرسول ومعه رساله من الملكه قالت فيها
“لماذا تقول، انهم يريدون خدعتى، فإذا كان لى ابن فهل كان فى وسعى أن أكتب الى أجنبى كاشفه عن مصيبتى ومصيبه بلادى؟! انك أهنتنى بقولك هذا، ان من كان زوجا لى قد مات وليس لى ابن فهل يحتم على أن أتزوج من أحد رعاياى؟ انى لم أكتب لأحد سواك. الكل يقولون ان لك أبناء كثيرين فأرسل لى واحدا منهم ليصبح زوجى!”
وأدرك (سوبيلوليوماس) أن هذه فرصه سانحه ليمد نفوذه فأرسل أحد أبنائه ولكن المؤامره فشلت ونعرف ان الامير قتل قبل وصوله الى مصر. ربما فعلت (عنخس ان امون) ذلك بعد وفاه الملك (توت عنخ امون) مباشره، وقبل ان يتزوجها (اى) اذا كانت قد تزوجته حقا!، فإن ذلك أمر ما زال مشكوكاً فى صحته. ولم يحكم (اى) أكثر من ثلاث سنوات شيد فيها بعض المبانى اهمها هيكله فى جبل اخميم، وبعد وموته تطلعت الانظار نحو منافسه القوى (حورمحب) اذا لم يكن هناك غيره يصلح لانقاذ البلاد مما تردت فيه.