قبل تناول البحث عن مكانة الأم في مصر القديمة وكيفية الاحتفال بها يجب ان ننوه بأنه من أهم القيم الإنسانية في الحضارة المصرية القديمة هي احترام الأم، وتقديرها، والاعتراف بأهمية دورها، فقد كانت لها منزلة عظيمة باعتبارها منبع الحياة ورمز الدفء و الحنان والتضحية من أجل الأسرة وأولادها.
وقد بدأت عادة تكريم الأم في مصر القديمة منذ آلاف السنين مع بداية نسج الأساطير، حيث تخيل المصريون القدماء في أساطيرهم أن السماء أُماً تلد الشمس كل صباح، كما أن عدداً كبيراً من آلهة المصريين القدماء كانوا من الأمهات، مثل ايزيس و نفتيس ونوت وحتحور و غيرهم.
ولقب قدماء المصريين الأم بلقب (نبت بر) بمعنى (ربة البيت)، وقد كان للأم في مصر القديمة دور مؤثر وفعال في تكوين الأسرة والمجتمع المصري القديم عبر تاريخه الطويل.
مكانة الأم والمرأة في مصر القديمة
تعتبر المكانة الخاصة بالمرأة في المجتمع المصري القديم وخاصة الأم والزوجة من ضمن مظاهر الحضارة المصرية القديمة، التي جعلت من الأم والزوجة والابنة رمزا للمساواة، وكانت المرأة في مصر القديمة توصف بأنها “الفريدة المحبوبة التي لا نظير لها”.
والآثار المصرية من نقوش وتماثيل ونصوص وموروث أدبي تشهد على تقديس الأم واحترامها وتبجيلها في مصر القديمة، حيث أشارت الآثار التي وردت إلينا إلى أنه في مصر القديمة كانوا يقدرون المرأة ويكرمونها، ويحتفلون بها في احتفالات شبيهة بما يحدث في عيد الأم في هذه الأيام.
فنجد نقوش المقابر سواء الخاصة بالملوك أو كبار رجالات الدولة أو عامة الشعب جميعها تصور أصحاب هذه المقابر في صحبة أمهاتهم وزوجاتهم في محبة وتقدير، وذلك حرصا منهم على أن يظهروا في معية أمهاتهم في عالمهم الآخر، كما تحتوي المعابد والمقابر الفرعونية المصرية على مشاهد مؤثرة للأمومة والطفولة، مثل ظهور الملكات في مصر القديمة وهنَ يرضعن أطفالهن مثلهن مثل العامة من الأمهات دون حرج في ذلك، ليرمز المصري القديم في تلك المشاهد إلى العلاقة الحميمة بين الأم والطفل، دون تفرقة بين ملكة أو أميرة أو سيدة غنية أو فقيرة.
وقد اتخذ المصريون القدماء عددا من الإلهات في عقيدتهم تعبر عن الأمومة بمعناها الواسع، فكانت الإلهة إيزيس تعتبر رمزا للأمومة، والتي كثيرا ما صوروها جالسة ترضع ابنها حورس، وهناك الإلهة حتحور ربة الأمومة والحب، وكذلك الربة تاورت، والربة نوت…ألخ.
لقد جسد الأدب الديني في مصر القديمة أقدم دور معروف للأم المصرية على ضفاف النيل، وذلك في قصة إيزيس وأوزوريس، حيث رووا فيها تضحيات إيزيس وما لاقته في سبيل تربية ابنها حورس بعد وفاة أبيه أوزوريس، وكيف ظلت وفية، وكيف قامت بالعديد من التضحيات من أجل تربية ابنها حورس، وكيف وقفت بجانبه حتى استعاد عرش أبيه وثأر من قاتله.
دور إيزيس فى إستعادة عرش زوجها أوزوريس
وتروي القصة في اختصار: أن الإله أوزوريس كان ملكا على البشر يحكم بين الناس بالعدل ويسهر على راحتهم، مما أثار عليه حقد أخيه “ست”، والذي تمكن بالحيلة من أن يلقى بجسده في النهر ويغتصب عرشه، ولكن ظلت إيزيس وفية لزوجها أوزوريس فاستمرت في البحث عنه حتى عثرت عليه، واستطاعت بما لديها من قوى السحر أن ترد عليه روحه لليلة واحدة، وحطت عليه كأنثى الطير لتحمل منه حملا ربانيا بمن يستعيد ملكه المسلوب.
ثم حاولت إيزيس أن تتخفى عن “ست” حتى تتمكن من وضع حملها بسلام، ولكن “ست” عثر عليها وألقى بها في السجن، فتدخل “تحوت” رب الحكمة والمعرفة لإنقاذها، حيث ساعدها على الهرب ونصحها أن تذهب إلى الدلتا وتختبئ هناك حتى لا يراها “ست”.
وبدأت إيزيس رحلتها الطويلة وتنكرت في هيئات كثيرة حتى لا يعرفها ست، بل عملت كمتسولة لكي لا تلفت النظر إليها أو لقواها السحرية، حتى وصلت إلى أحراش الدلتا، وهناك أنجبت ابنها حورس في السر دون أن يعلم إنسان بمكانه، وقد هددت الأخطار حياة هذا الطفل، لكنه كان ينجو منها دائما بفضل يقظة وعناية أمه.
وظلت إيزيس تضحي من أجل ابنها حورس، وعندما شب حورس، واشتد ساعده، عمدت إيزيس أن ينشأ ابنها على القوة وصلابة العود على عكس غيره من الأطفال، وعلمته فنون الحرب والقتال، وكانت دائما ما تحدثه عن مكانة أبيه وفضله، وأن عليه أن ينتقم لأبيه الذي قـُتِل ظلما بيد عمه.
وعندما أحس الفتى حورس البأس من نفسه خرج للثأر لأبيه من عمه ست، ودخل معه في معارك عديدة، وطالت بينهما المواقع في أنحاء مصر كلها حتى نجح حورس في النهاية أن يستعيد ملك أبيه، وهنا وجدت إيزيس أن دورها قد انتهى في عالم الدنيا فآثرت أن ترحل إلى العالم الآخر كي تظل إلى جوار زوجها أوزوريس.
كذلك كان هناك في العقيدة المصرية القديمة إلهات أخريات تعبر عن الأمومة وترمز لها، منهم الربة “حتحور” والتي قالوا في أساطيرهم عنها أن لون الشفق لحظة الغروب ما هو إلا الدم الذي نزفته حتحور في ولادة ابنها “ايحي”.
وكانت النساء في مصر القديمة يترقبن حدوث الحمل بلهفة شديدة إشباعا لعاطفة الأمومة الطبيعية لديهن، فإذا ما استشعرت الأم بأعراض الحمل بحثت عن جميع سبل العناية والرعاية من أجل صحتها وصحة جنينها، وذلك حرصا منها على سلامة الحمل وإتمامه بنجاح.
التقرب من الآلهة والإلهات لحماية الأم وطفلها أثناء فترة الحمل
كما كانت الأمهات يتقربن إلى العديد من الآلهة والإلهات المسئولة عن حماية الأم وطفلها أثناء فترة الحمل والولادة مثل:
- المعبودة ايزيس ربة الأمومة والرضاع.
- والإلهة حتحور ربة الحب والأمومة.
- وكذلك المعبودة “تاورت” ربة الحمل والولادة.
- والمعبود بس رب البهجة والمرح، الذي كان في عقيدة القوم يبعد الشر عن الأم وطفلها.
- والمعبود “خنوم” رب الخلق الذي يشكل الجسد البشرى على عجلة الفخار ويهب الوليد نسمة الحياة.
- وأيضاً المعبود آمون الذي كانوا يعتقدون أنه يذهب عن الأم الحامل آلام الوضع إذا نطقت باسمه.
عادات المصريين القدماء حينما يأتي المخاض للمرأة الحامل
وكان من عادات المصريين القدماء حينما يجئ المرأة الحامل المخاض أن يقوموا بوضعها في غرفة داخل المنزل، حيث تلد الحامل وهى جالسة القرفصاء فوق مقاعد خاصة للوضع تسمى “كرسي الولادة”، أو تلد وهى واقفة ومستقيمة الجذع، وكان يحيط بها مجموعة من القابلات (الدايات)، كُنَّ يقمن بدور إلهات الحمل والولادة.
وبعد أن تتم عملية الولادة كانت تأتى سبع كاهنات من كهنة المعبودة حتحور كانوا يسمونهن الحتحورات السبعة؛ لكي يبشرن الأم ويتنبأن للمولود بحسن الطالع والعمر الطويل. ومن ناحية أخرى فقد اهتمت الأمهات في مصر القديمة باتخاذ جميع الوسائل التي تضمن لهن رضاعة جيدة.
وكانت الأم إذا أحست أن لبنها أصابه الجفاف تستعين بالوسائل الطبية التي تتوفر في عصرها كعلاج لهذه المشكلة، وذلك حرصا منها على فلذة كبدها.
ومن عادة المصريين في بعض العصور أن ينتسب الأبناء لأسماء أمهاتهم. وكان المصريون القدماء من مختلف طبقات المجتمع المصري يحرصون على تصوير أمهاتهم على جدران مقابرهم والظهور معهم وفي كنفهم.
الملكة إعح حتب ودورها في حرب التحرير المباركة ضد الهكسوس
وقد احتفظت الحضارة المصرية القديمة بأسماء العديد من الأمهات المثاليات، واللاتي لعبن دوراً بارزاً في التاريخ المصري القديم واستطعن أن يمسكن بزمام الأمور في لحظات فاصلة من التاريخ المصري القديم، كالملكة إعح حتب أم الملكين كامس وأحمس اللذين خاضا حرب التحرير المباركة ضد الهكسوس حتى أفلح أحمس في طرد الهكسوس من مصر.
لقد كانت الأم العظيمة إعح حتب أرملة للملك سقننرع الذي استشهد في إحدى المعارك الحربية ضد الهكسوس، فأمسكت إعح حتب مقاليد الأمور، ودفعت بابنها الملك “كامس” إلى ساحة القتال بعد أن جمعت حوله المصريين لخوض معركة التحرير، ولكن مات كامس أيضا شهيدا في أرض المعركة مثل والده وهو في بداية شبابه.
لكن الأم الصامدة بكل ثبات وصبر دفعت بابنها الثاني أحمس لقيادة المعركة وهو صبي دون العشرين من عمره، و قامت ببث الروح المعنوية في نفوس المصريين، وأعلنت حالة النفير العام وجمعت الجموع وخطبت فيهم، ونفثت فيهم من روحها، وأوصت ابنها أحمس بعدم العودة إلا بأكاليل النصر.
وخرج أحمس بجيشه المبارك من طيبة (الأقصر) زاحفا نحو الهكسوس يطاردهم، وحول عاصمة الهكسوس دارت رحى معركة رهيبة استبسل فيها المصريون، واستطاعوا أن يسحقوا الهكسوس ويجلونهم عن أرض مصر، وشتتوهم فلم تقم لهم قائمة في التاريخ بعد ذلك.
تعظيم أحمس لأمه إعح حتب بسبب مكانة الأم في مصر القديمة
وعاد أحمس مكللا بأكاليل النصر مثلما أوصته أمه العظيمة إعح حتب، ولم ينس أحمس فضل أمه العظيمة في إحراز النصر فمنحها وسام الذبابة الذهبية تقديرا لشجاعتها وصلابتها، واعترافا بدورها الرائع، وكان ذلك الوسام هو أعلى وسام عسكري في مصر القديمة كان يتم منحه للرجال المقاتلين الأشداء،فأصبحت بذلك أول امرأة في التاريخ تمنح وساما عسكريا.
كما دعا أحمس الناس لتمجيد أمه وتقديسها، وحينما توفاها الله أهداها في مقبرتها بلطة حرب ذهبية منقوش عليها اسمه تعبيرا عن طبيعتها العسكرية، وعرفانا بدورها الحربي، كما أهداها أساور ومشغولات ذهبية تقدير لتلك الأم المثالية، وقد قدس المصريون القدماء اعح حتب وظلوا يحتفظون بسيرتها قرونا طويلة.
الملكة تي
وهناك كذلك الملكة (تي) العظيمة، أم الملك الفيلسوف أخناتون داعي الوحدانية، وزوجة الملك أمنتحب الثالث، وكانت تي تتصف بالتعقل والحكمة مع الشدة والحزم، و استطاعت أن توازن الأمور في البلاد وتكبح جماح الحرب الأهلية والانقسام الداخلي نتيجة لدعوة ابنها إخناتون الدينية الجديدة، كما وقفت مع ابنها في دعوته الدينية للتوحيد.
اهتمام أدب الحكمة بـ مكانة الأم في مصر القديمة
وقد اهتم أدب الحكمة في مصر القديمة بمكانة الأم، وحث على حسن معاملتها، وتبجيلها، والاهتمام بحاجة النساء بشكل عام، لكونهن أمهات أو مشروع أمهات، حتى أن بعض حكماء المصريين قالوا “إن دعاء الأبناء لا يصل إلى آذان السماء، إلا إذا خرج من فم الأمهات”.
وكان جميع الحكماء يوجهون الأبناء إلى ضرورة احترامهم لأمهاتهم، وكان من ضمن وصايا الحكماء أثناء زواج الابن أن يعامل زوجته كما يعامل أمه.
بردية الحكيم آني التي تقدر مكانة الأم في مصر القديمة
ومن أجمل الأمثلة والتي عبرت عن تقدير المصريين القدماء للأم ودورها في الحياة، ما جاء في بردية الحكيم آني الذي عاش في القرن السادس عشر قبل الميلاد، ينصح ابنه بقوله:
“أطع أمك واحترمها، وضاعف الطعام الذي تخصصه لها، وتحملها كما تحملتك، فإن الإله هو الذي أعطاها لك، لقد حملتك في بطنها حملاً ثقيلاً ناءت بعبئه وحدها، دون مساعدة، وعندما ولدتكَ قامت على خدمتك بكل حنان، و أرضعتك ثلاث سنوات، وتحملت أذى قاذوراتك دون أنفة نفس، وعندما التحقتَ بالمدرسة كي تتعلم كانت تذهب إليك كل يوم بالطعام والشراب، فإن أنتَ كبرتَ وتزوجت واستقررتَ في دارك فتذكر أمك التي ولدتك وعملت على تربيتك بكل سبيل .. لا تدعها تلومك وترفع كفها إلى الإله فيسمع شكواها”.
عيد الأم عند المصريين القدماء
ومن هنا فقد جعل المصريون القدماء عيدا للأم، احتفاء واحتفالا بها وتكريما لها؛ فقد عثر على بردية تعود للدولة القديمة منذ حوالي خمسة آلاف عام، يحتفل فيها بالأم.
وقد اختار المصريون موعد الاحتفال بعيد الأم آخر شهور فيضان النيل، عندما تكون الأرض الخصبة معدة لبذر البذور، أي وقت خصوبة الطبيعة في مصر، وهو شهر “هاتور” في التقويم المصري القديم، وهاتور هو تصحيف لاسم الإلهة “حاتحور”، التي هي ربة الجمال والأمومة، و معنى حتحور (حت ـ حور) أي مرضعة حور أي مرضعة الإله حورس.
ولقد شبه المصريون القدماء الأم بنهر النيل، الذي يهب الحياة الخصب والخير والنماء، وكان يتم الاحتفال بعيد الأم مع شروق الشمس التي يعتبرون نورها وأشعتها رسالة من إله السماء للمشاركة في تهنئتها.
وكانوا في ذلك اليوم يضعون للأم في غرفتها الهدايا والتماثيل المقدسة المعبرة عن الأمومة، واعتبروا تمثال “ايزيس” التي تحمل ابنها حورس رمزا للأمومة ورمزا لعيد الأم، فكانوا يضعونه في غرفة الأم ويحيطونه بالزهور والقرابين ويضعون حوله الهدايا المقدسة للأم في عيدها، وقد وجد في كثير من مقابر الدولة الحديثة كثير من البرديات و الأوستراكا التي حوت نماذج من النصوص للأم في عيدها.
إحدى البرديات فى عيد الأم
وقد جاء في إحدى البرديات “اليوم عيدك يا أماه، لقد دخلت أشعة الشمس من النافذة لتُقبل جبينك، وتبارك يوم عيدك، واستيقظت طيور الحديقة مبكرة لتغرد لكٍ في عيدك، وتفتحت زهور اللوتس المقدسة على سطح البحيرة لتحيتك، اليوم عيدك يا أماه فلا تنسي أن تدعو لي في صلاتك للرب”.