بحث عن إغتيال الملك تتي الذي يعتبر هو المؤسس الأول للأسرة السادسة؛ حيث سجلت القوائم الملكية اسمه في مقدمة ملوك هذه الأسرة، وقد تولى مقاليد الحكم في ظروف غير طبيعية يشوبها التوتر.
زواج الملك تتي
إلا أنه اكتسب شرعية الحكم بزواجه من الأميرة “أبوت” ابنة الملك “ونيس” (حوالي 2375-2345 ق.م) آخر ملوك الأسرة الخامسة. كما تزوج بعدها من أميرة أخرى تدعى “خويت” التي يرى البعض أنها ابنة الملك “اسيسي” الذي حكم قبل الملك “ونيس”، وقد عثر على مقبرة “أبوت” في سقارة، ومقبرة “خويت” بالقرب من هرمه، كما للملك زوجة ثالثة هي “سششت” عثر لها على صورة نقشت على قطعة من الحجر، ويبدو أنها كانت من نسل عريق، دل على ذلك أن عددًا من زوجات موظفي البلاد قد تسمين باسمها.
وقد بنى الملك “تتي” لنفسه هرمًا بالقرب من هرم “ونيس”، غطيت جدرانه بالنقوش ، ولم يبقَ منه إلا القليل، أما معبد الوادي فلم يعثر عليه حتى الآن. ويُنسب إلى عهده ذلك النشاط التجاري مع الدول المجاورة، إذ وُجد اسمه منقوشًا على أجزاء من إناء عُثر عليه في جبيل، كما ظهر اسمه على صخور توماس ببلاد النوبة، مما يثبت إرساله بعثة تعدينية إلى هناك .
كما عُثر له على إناء في “نجع الدير” صُورت عليه صفات أهل “بونت”، وعُثر على اسمه منقوشًا على محاجر “حتنوب” أثناء التعداد السادس للماشية في عهده، وإبان عصره تغيرت بعض أنظمة الدولة، وكان من أهم مظاهره زيادة نفوذ حكام الأقاليم الذين أخذوا يميلون إلى الاستقلال الذاتي، فأخذوا يقيمون مقابرهم بعيدًا عن أهرام ملوكهم داخل أقاليمهم، وسمحوا لأتباعهم بالدفن حول مقابرهم أسوة بما يفعله الملوك، كما غطوا جدران مقابرهم بالنقوش العديدة التي تبرز مجهوداتهم الشخصية ومآثرهم الفردية.
ما قاله المؤرخ مانيتون عن الملك تتي
وقد ذكر المؤرخ المصري القديم مانيتون أن الملك “أوثوس” (تتي)، قد تم اغتياله على يد حرسه بعد أن حكم قرابة الثلاثين عامًا، فنقرأ ما نصه: «الأسرة السادسة تكونت من ستة ملوك من منفيس (منف) أوثوس (تتي) لمدة ثلاثين عامًا، وتم اغتياله على يد حرسه الشخصي» وتوفرت العديد من الأسباب التي ترجح اغتياله منها: اتخاذ الملك “تتي” منف عاصمة لملكه، ربما بسبب انتسابه للبيت المنفي، كما ادعت القوائم اليونانية.
كما ترأس الملك بنفسه لحركة رجعية اتجهت اتجاهًا صريحًا نحو الإعلاء من شأن المعبود “بتاح” إله مدينة “منف” وكهنته ضد سيطرة واحتكار عين شمس مقر عبادة الإله “رع”، ومن المحتمل وقوع فتنة دينية بين كهنة عين شمس الذين احتكروا الكهانة والمناصب والامتيازات خلال عصر الأسرة الخامسة وبين كهنة منف انتهت بتآمر كهنة الإله “رع” ضد الملك “تتي” وقتله.
فقد تم العثور على لوح حجري من الجرانيت الأسود، وإيداعه بالمتحف البريطاني، ونقش عليه ملحمة دينية تحاول تفسير أصل جميع الأشياء بما في ذلك النظام الخلقي، وأن هذه الأصول جميعاً ترجع لبتاح إله منف أما كل العوامل الأخرى التي ساعدت على خلق العالم فلم تكن إلا مجرد صور أو مظاهر لهذا الإله المسيطر على أصحاب الحرف والصناعات.
وهذا المتن كُتب في عهد أحد ملوك الأسرة الخامسة والعشرين، وهو “نفر كارع شباكا” (حوالي 716-702 ق.م) الذي أمر بإعادة نسخ المتن من جديد بعد أن تهالك المتن القديم أو أوشك على الفناء، ويبدو من خلال الألفاظ والمفردات اللغوية الواردة فيه أنه يرجع إلى عصر الدولة القديمة (3100-2181 ق.م)، وظهر “بتاح” في هذه الملحمة في شكل الإله الأعلى لمصر، بل إنه انتزع لنفسه جميع الأبهة والعظمة التي كانت للمعبود “رع” إله الشمس.
إهتمام الملك تتي بالإله بتاح
وهناك إشارة يُفهم منها أن الملك قد وصل إلى سُدة الحكم في جو من الفتن والقلاقل بدليل اسمه الحوري والذى يعنى “مهدئ الأرضين” كما ورد من وثائق عهده النص الذي نقشه الكاهن الأكبر للإله “بتاح” المدعو “سابو ابيني” على جدران مقبرته بسقارة.
وتضمنت النصوص إشارة صريحة لاهتمام الملك “تتي” بكهنة الإله “بتاح”؛ حيث يذكر الإنعامات الكهنوتية والامتيازات المدنية التي حظي بها للوصول لأرفع المناصب في عهد مليكه “تتي”، ومن المحتمل أن هذه السياسة التفضيلية قد أدت إلى غضب كهنة عين شمس، فرأوا في مناهضة أهل ذلك البيت لسياستهم الدينية ما يفسد عليهم أمورهم، فباتوا يأتمرون بالقصر ويتربصون بصاحبه الدوائر وليس ببعيد أن يكونوا قد فتنوا الجيش، وكثيرًا من الأمراء، ودسوا للملك في قصره من حرسه من قام باغتياله.
تنظيم كهنوت بتاح
هناك وثيقة أثرية أخرى تدل على أن الملك “تتي” سعى إلى تنظيم كهنوت “بتاح”، بينما انصرف عن كهنوت “رع”، وتتمثل هذه الوثيقة في تمثال للملك نقش عليه “محبوب بتاح”، وهذا التمثال عبارة عن مجموعة شُكِّلت من الحجر الجيري الأبيض، محفوظة حاليًا في متحف مرسليا، وترجع إلى عصر الأسرة التاسعة عشرة، وتمثل ناووسًا صغيراً مستطيلاً وفوقه تمثال جالس للملك “تتي” لم يتبقَ منه سوى الساقين، وأمامه تمثالان آخران بدون رأس راكعان وأذرعهما مرفوعة في وضع التعبد.
التمثال الأول للكاهن “آمون واح سو”، والآخر لزوجته “حنوت وجبوت” مغنية “آمون” بالكرنك، وتغطي كل جوانب هذه المجموعة النقوش وأهمها ما هو موجود على الجانب الأيمن والأيسر للناووس؛ حيث يشاهد كل من الكاهن وزوجته على حدة يتعبدان للملك “تتي” الواقف داخل هرم مدبب، وقد حمل النعت “مري بتاح” أي «محبوب بتاح».
ونص مانيتون له ما يقويه من الأدلة الأثرية، فقد عثر على قناع جصي للملك “تتي” في الركن الشمالي الغربي من معبده الجنائزي بسقارة، ويبلغ ارتفاعه حوالي 70 سم، وقد أخذ النحاتون هذا القناع من على وجه الملك بعد وفاته مباشرةً من أجل محاكاته في عمل تماثيل له ، مما يدل على احتمال وفاته المفاجئة، وعدم تمكن النحاتين من عمل تماثيل كافية له أثناء حياته.
الدليل على إغتيال الملك تتي
ومن الأدلة الأثرية التي تؤيد رواية مانيتون على إغتيال الملك تتي ما تبقى من جثة الملك المقتول، وهو فقط الذراع والكتف؛ حيث عثر عليها “ماسبرو” في حفرة داخل حجرة الدفن لهرمه، كما تم تحطيم التابوت المنحوت من البازلت الرمادي، والذي كان يحوي مومياء الملك، ثم ألقى ما تبقى منها في إحدى الحفرات الموجودة داخل حجرة الدفن.
ولا يمكن قبول ما ذهب إليه منير بسطا وآخرون، من أن ذلك من فعل اللصوص، وذلك لعدة اعتبارات منها إغفالهم للنص الذي أورده مانيتون، والقرائن الأثرية التي أيدته، ولو افترضنا جدلاً أن ذلك من فعل اللصوص، فما الذي يدفعهم إلى التمثيل بالجثة والمكوث داخل المقبرة حتى يتم الانتهاء من تحطيم تابوته الذي صنع من حجر البازلت الرمادي.
كما يؤيد الباحث الآراء التي ذهبت إلى أن عملية إغتيال الملك تتي قد تمت على يد الحرس الشخصي الخاص بالملك؛ وأن ذلك كان بإيعاز من كهنة إله الشمس “رع”، ويضيف الباحث: أن عملية التمثيل بالجثة والتابوت قد تمت على يد المتطرفين من كهنة المعبود “رع”، ودفعهم إلى ذلك الحقد الديني، والدفاع عن مصالحهم الخاصة.
كما أن المتفحص لمسرح الجريمة يلاحظ أن ما تبقى من الجثة قد تم إلقاؤه في حفرة داخل المقبرة، وفي ذلك نوع من الإهانة والحقد الديني، وأن ذلك لم يحدث بمحض الصدقة، وإنما تم عن قصد وهو حرمان الملك من الراحة في العالم الآخر، ومنع روحه من التعرف على الجسد.